التنمية المستدامة: المفهوم والمكونات

التنمية المستدامة: المفهوم والمكونات

د. هشام بشير:

 

يُعد مفهوم "التنمية المستدامة" من المفاهيم الحديثة، والتي ظهرت مع بداية الاهتمام العالمي بقضايا البيئة وحماية الموارد الطبيعية من الاستنزاف والاستخدامات غير الرشيدة لتلك الموارد.

 

 

 

وتتعد أنماط ومستويات التنمية المستدامة، كما أن تلك التنمية ترتكز على مبادئ تحكم السلوك البشري مع المعطيات البيئية المتنوعة، لذلك فإنَّ هناك أهداف تسعى إلى تحقيقها تلك التنمية من خلال مشاركات ومساهمات أطرافها، وباستخدام الأدوات التي تكفل الوصول إلى تحقيق تنمية مستدامة.

 

 

 

وهناك خطأ شائع يصنع ترادفاً ومزجاً بين التنمية المستدامة وبين التنمية البيئية حيث يظن الكثير أن التنمية المستدامة هي المحافظة علي البيئة بكل مفرداتها من حيث سلامة الهواء والماء، والمحافظة علي المحميات الطبيعية، وزراعة الغابات، والتشجير، ومشكلات التصحر إلي آخره من القضايا المتعلقة بالبيئة، وإذا كانت الجوانب البيئية ركناً أصيلاً من التنمية المستدامة إلاّ أنها ليست كل الأركان، فالتنمية المستدامة هي رؤية أكثر شمولية للمجتمع علي نحو يفوق البعد البيئي.

 

 

 

مفهوم التنمية المستدامة

 

 

 

       ظهر مصطلح " التنمية المستدامة" علي الساحة الدولية والمحلية لكي يجد طريقه وسط عديد من المصطلحات المعاصرة مثل العولمة، صراع الحضارات، الحداثة، ما بعد الحداثة، التنمية البشرية، البنيوية، الجينوم، المعلوماتية، ... وغيرها من التعبيرات التي يجب علينا فهمها لكي نجد لغة خطاب مع العالم، وأيضا لكي يكون لدينا الوعي بمفهوم هذه المصطلحات ولا يكون عندنا لبس أو خلط للأمور؛ فالتعريفات للمصطلحات تأخذ منحنيات وتفسيرات وتأويلات مختلفة طبقاً لطبيعة البلد وثقافته، ولوجهة نظر واضع المصطلح، وأيضاً لوجهة نظر المفسر للمصطلح، إنّ ذلك يخلق قدراً من الغموض والالتباس في معني المصطلح ليس فقط لدي العامة ولكن لدي المتخصصين أنفسهم.

 

 

 

وجدير بالذكر، أنه قبل تداول استخدام مفهوم "التنمية المستدامة" في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم ، كان المفهوم السائد هو "التنمية" بمعناها التقليدي، وقد برز مفهوم "التنمية" بعد الحرب العالمية الثانية وحصول مجتمعات العالم الثالث على استقلالها السياسي، وذلك حينما بدأت الدول الرأسمالية الكبرى تروج للفكر التنموي التقليدي الذي يؤكد على أن ما تعاني منه دول العالم الثالث من فقر وجهل إنما هو نتاج لتخلفها – وليس لاستعمارها لسنوات طويلة - ومن ثم طرح ذلك الفكر مفهوم التنمية كأداة تستطيع من خلالها دول العالم الثالث أن تتجاوز حالة التخلف وتلحق بالدول المتقدمة.

 

 

 

ولقد كَثُرَ استخدام مفهوم التنمية المستدامة في الوقت الحاضر، ويعتبر أول مَنْ أشار إليه بشكل رسمي هو تقرير" مستقبلنا المشترك" الصادر عن اللجنة العالمية للتنمية والبيئة عام 1987، وتشكلت هذه اللجنة بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول عام 1983 برئاسة "برونتلاند" رئيسة وزراء النرويج وعضوية ( 22 ) شخصية من النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة في العالم، وذلك بهدف مواصلة النمو الاقتصادي العالمي دون الحاجة إلى إجراء تغيرات جذرية في بنية النظام الاقتصادي العالمي.

 

 

 

وقد صنفت التعاريف التي قيلت بشأن التنمية المستدامة إلى صنفين، هما:

 

الصنف الأول: تعاريف مختصرة:

 

 سُميت هذه التعاريف بالتعاريف الأحادية للتنمية المستدامة، وفي الحقيقة أن هذه التعاريف هي أقرب للشعارات وتفتقد للعمق العلمي والتحليلي ومنها:

 

التنمية المستدامة هي التنمية المتجددة والقابلة للاستمرار.

 

التنمية المستدامة هي التنمية التي تتعارض مع البيئة.

 

التنمية المستدامة هي التي تضع نهاية لعقلية لا نهائية الموارد الطبيعية.

 

الصنف الثاني: تعاريف أكثر شمولاً، ومنها:

 

وفقاً لأحد التعريفات فإنَّ التنمية المستدامة (Sustainable Development)  تعرف بأنها التنمية التي تُلبي احتياجات البشر في الوقت الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تحقيق أهدافها، وتركز على النمو الاقتصادي المتكامل المستدام والإشراف البيئي والمسؤولية الاجتماعية.

 

فالتنمية المستدامة هي عملية تطوير الأرض والمدن والمجتمعات، وكذلك الأعمال التجارية بشرط أن تلبي احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها.

 

 

 

وقد عرف تقرير برونتلاند الذي أصدرته اللجنة الدولية للبيئة والتنمية في عام 1987 بعنوان "مستقبلنا المشترك" التنمية المستدامة بأنها 'التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون أن يعرض للخطر قدرة الأجيال التالية علي إشباع احتياجاتها".

 

 

 

وتعرف منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التنمية المستدامة (الذي تم تبنيه في عام ١٩٨٩ ) كما يلي:

 

"التنمية المستدامة هي إدارة وحماية قاعدة الموارد الطبيعية وتوجيه التغير التقني والمؤسسي بطريقة تضمن تحقيق واستمرار إرضاء الحاجات البشرية للأجيال الحالية والمستقبلية. إن تلك التنمية المستدامة (في الزراعة والغابات والمصادر السمكية) تحمي الأرض والمياه والمصادر الوراثية النباتية والحيوانية ولا تضر بالبيئة وتتسم بأنها ملائمة من الناحية الفنية ومناسبة من الناحية الاقتصادية ومقبولة من الناحية الاجتماعية".

 

يتضح لنا أن التنمية المستدامة في الواقع هي "مفهوم شامل يرتبط باستمرارية الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية والمؤسسية والبيئية للمجتمع"، حيث تُمكّنُ التنمية المستدامة المجتمع وأفراده ومؤسساته من تلبية احتياجاتهم والتعبير عن وجودهم الفعلي في الوقت الحالي مع حفظ التنوع الحيوي والحفاظ على النظم الإيكولوجية والعمل على استمرارية واستدامة العلاقات الإيجابية بين النظام البشري والنظام الحيوي حتى لا يتم الجور على حقوق الأجيال القادمة في العيش بحياة كريمة، كما يحمل هذا المفهوم للتنمية المستدامة ضرورة مواجهة العالم لمخاطر التدهور البيئي الذي يجب التغلب عليه مع عدم التخلي عن حاجات التنمية الاقتصادية وكذلك المساواة والعدل الاجتماعي.

 

 

 

ومما تجدر الإشارة إليه، أنه رغم شمولية مفهوم التنمية المستدامة واشتمالها على جوانب اقتصادية واجتماعية ومؤسسية وبيئية وغيرها إلاّ أنّ التأكيد على البعد البيئي في فلسفة ومحتوى التنمية المستدامة، إنّما يرجع إلى أن إقامة المشروعات الاقتصادية الكثيرة والمتنوعة يجهد البيئة سواء من خلال استخدام الموارد الطبيعية القابلة للنضوب أو من خلال ما تحدثه هذه المشروعات من هدر أو تلويث للبيئة، ومن ثمّ تأخذ التنمية المستدامة في اعتبارها سلامة البيئة، وتعطي اهتماماً متساوياً ومتوازياً للظروف البيئية مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وتكون حماية البيئة والاستخدام المتوازن للموارد الطبيعية جزءاً لا يتجزأ من عملية التنمية المستدامة.

 

وجديرٌ بالذكر أيضاً، أن عملية دمج الاعتبارات الاقتصادية مع الاعتبارات البيئية في عمليات صنع واتخاذ القرارات المختلفة هو بمثابة الطريق السليم لتحقيق التنمية الاستدامة، فالاعتبارات البيئية التي يشملها قرار ما لا تمثل – بالضرورة - تضاد مع الاعتبارات الاقتصادية التي يهدف إليها هذا القرار. فعلى سبيل المثال، فإنَّ السياسات الزراعية والتي تعمل على حفظ نوعية الأراضي الزراعية بهدف تحسين آفاق التنمية الزراعية على المدى البعيد، كما أن زيادة الكفاءة في استخدام الطاقة والمواد من شأنها أنْ تخدم الأهداف البيئية.

 

 

 

أبعاد ومكونات التنمية المستدامة

 

 

 

     لقد ذكرنا آنفاً أن "فكرة التنمية المستدامة" تم التصديق عليها رسمياً في مؤتمر قمة الأرض الذي عقد في "ريو دي جانيرو" عام 1992م؛ حيث أدرك القادة السياسيين – في هذا المؤتمر- أهمية فكرة التنمية المستدامة، لا سيما أنهم قد أخذوا في اعتبارهم أنه ما زال هناك جزء كبير من سكان العالم يعيشون تحت ظل الفقر، وأن هناك تفاوتاً كبيراً في أنماط الموارد التي تستخدمها كل من الدول الغنية وتلك الفقيرة، إضافة إلى أن النظام البيئي العالمي يعانى من ضغوط حادة، كل هذه الأمور استدعت ضرورة إعادة توجيه النشاط الاقتصادي بغية تلبية الحاجات التنموية الماسة للفقراء ومنع حدوث أضرار سلبية من دورها أن تنعكس على البيئة العالمية، وبالفعل استجابت الدول سواء النامية أو الصناعية، واقترحت البلدان النامية صياغة ما يسمى عهد جديد من النمو لمعالجة قضايا الفقر والمشاكل التي تعانى منها الدول الأقل فقراً، وأما بالنسبة للدول الصناعية، فقد ارتأت ضرورة بذل الجهود المضنية من أجل زيادة الطاقة والمواد الفعالة والكافية إضافة إلى إحداث تحول في النشاط الاقتصادي لتخفيف حدة الثقل من على كاهل البيئة.

 

ومن التعريفات السابقة للتنمية المستدامة يمكن استخلاص أهدافها، وأبعادها، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:

 

البُعد البيئي:

 

تهدف التنمية المستدامة إلى تحقيق العديد من الأهداف البيئية، وتتمثل فيما يلي:

 

الاستخدام الرشيد للموارد الناضبة، بمعنى حفظ الأصول الطبيعية بحيث نترك للأجيال القادمة بيئة مماثلة حيث أنّه لا توجد بدائل لتلك الموارد الناضبة.

 

مراعاة القدرة المحدودة للبيئة على استيعاب النفايات.

 

ضرورة التحديد الدقيق للكمية التي ينبغي استخدامها من كل مورد من الموارد الناضبة، ويعتمد ذلك على تحديد قيمتها الاقتصادية الحقيقية، وتحديد سعر مناسب لها بناءً على تلك القيمة.

 

الهدف الأمثل للتنمية المستدامة هو التوفيق بين التنمية الاقتصادية والمحافظة على البيئة مع مراعاة حقوق الأجيال القادمة في الموارد الطبيعية خاصة الناضبة منها.

 

البُعد الاقتصادي:

 

تهدف التنمية المستدامة بالنسبة للبلدان الغنية إلى إجراء تخفيضات متواصلة في مستويات استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية والتي تصل إلى أضعاف أضعافها في الدول الغنية مقارنة بالدول الفقيرة، من ذلك مثلاً يصل استهلاك الطاقة الناجمة عن النفط والغاز والفحم في الولايات المتحدة إلى مستوى أعلى منه في الهند بـ 33 مرة.

 

 

 

البُعد الاجتماعي:

 

إنّ عملية التنمية المستدامة تتضمن تنمية بشرية تهدف إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية والتعليم، فضلاً عن عنصر المشاركة حيثُ تؤكّد تعريفات التنمية المستدامة على أنّ التنمية ينبغي أن تكون بالمشاركة بحيث يشارك الناس في صنع القرارات التنموية التي تؤثر في حياتهم، حيث يشكل الإنسان محور التعريفات المقدمة حول التنمية المستدامة، والعنصر الهام الذي تشير إليه تعريفات التنمية المستدامة  - أيضاً - هو عنصر العدالة أو الإنصاف والمساواة، وهناك نوعان من الإنصاف هما إنصاف الأجيال المقبلة والتي يجب أخذ مصالحها في الاعتبار وفقاً لتعريفات التنمية المستدامة، والنوع الثاني هو إنصاف من يعيشون اليوم من البشر ولا يجدون فرصا متساوية مع غيرهم في الحصول على الموارد الطبيعية والخدمات الاجتماعية، والتنمية المستدامة تهدف إلى القضاء على ذلك التفاوت الصارخ بين الشمال والجنوب.

 

كما تهدف التنمية المستدامة أيضاً – في بعدها الاجتماعي- إلى تقديم القروض للقطاعات الاقتصادية غير الرسمية، وتحسين فرص التعليم، والرعاية الصحية بالنسبة للمرأة.

 

 

 

البُعد التكنولوجي:

 

تستهدفُ التنمية المستدامة تحقيق تحولاً سريعاً في القاعدة التكنولوجية للمجتمعات الصناعية، إلى تكنولوجيا جديدة أنظف، وأكفأ وأقدر على الحد من تلوث البيئة، كذلك تهدف إلى تحولا تكنولوجيا في البلدان النامية الآخذة في التصنيع، لتفادي تكرار أخطاء التنمية، وتفادي التلوث البيئي الذي تسببت فيه الدول الصناعية، ويشكل التحسن التكنولوجي الذي تستهدفه التنمية المستدامة، وسيلة هامة للتوفيق بين أهداف التنمية والقيود التي تفرضها البيئة، بحيث لا تتحقق التنمية على حساب البيئة.

 

 

 

مكونات وأنماط الاستدامة:

 

 

 

توجد عدة  أنماط للاستدامة تمثل مكونات التنمية المستدامة، ويمكن إجمالها على النحو التالي:

 

الاستدامة المؤسسية:

 

تُعني الاستدامة المؤسسية بالمؤسسات الحكومية وإلى أي مدى تتصف تلك المؤسسات بالهياكل التنظيمية القادرة على أداء دورها في خدمة مجتمعاتها وحتى يمكن أن تؤدي دورها في تحقيق التنمية المستدامة، بجانب دور المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني وإلى أي مدى يكون لتلك المؤسسات ودور في تنمية مجتمعاتها، وبجانب المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ما مدى مشاركة القطاع الخاص متمثلاً في الشركات العاملة في المجالات المختلفة في خدمة المجتمع المحيط وخدمة أهداف التنمية بتلك المجتمعات.

 

 

 

الاستدامة الاقتصادية:

 

توصف التنمية بالاستدامة الاقتصادية عندما تتضمن السياسات التي تكفل استمرار الأنشطة الاقتصادية بالمجتمع وأداء الدور المنتظر منها، وتكون في نفس الوقت سليمة من الناحية الإيكولوجية فالتنمية الزراعية والريفية - على سبيل المثال - تتسم بالاستدامة عندما تكون سليمة من الناحية الإيكولوجية وقابلة للتطبيق من الناحية الاقتصادية وعادلة من الناحية الاجتماعية ومناسبة من الناحية الثقافية، وأن تكون إنسانية تعتمد على نهج علمي شامل، وتعالج التنمية الزراعية والريفية المستدامة بحكم تعريفها قطاعات متعددة لا تشمل الزراعة فقط بل المياه والطاقة والصحة والتنوع البيولوجي.

 

 

 

الاستدامة البيئية:

 

يُقصد بالاستدامة البيئية بأنها قدرة البيئة على مواصلة العمل بصورة سليمة، لذلك يتمثل هدف الاستدامة البيئية في التقليل إلى أدنى حد من التدهور البيئي، وتتطلب الاستدامة تغذيته بشكل طبيعي، بمعنى أن تكون الطبيعة قادرة على تجديد التوازن البيئي، ويمكن أن يتحقق ذلك بدمج الاعتبارات البيئية عند التخطيط للتنمية حتى لا يتم إلحاق الأضرار برأس المال الطبيعي وذلك كحد أدنى.

 

 

 

البشرية المستدامة:

 

بدأ الاهتمام واضحاً الآن بمدى ارتباط التنمية البشرية بمفهوم التنمية المستدامة، حيث تبرز هذه العلاقة من خلال الحاجة الماسة لإيجاد توازن بين السكان من جهة وبين الموارد المتاحة من جهة أخرى، وبالتالي فهي علاقة بين الحاضر والمستقبل بهدف ضمان حياة ومستوى معيشة أفضل للأجيال القادمة والذي يحتاج إلى ربط قضايا البيئة بالتنمية بشكل محدد ومستمر، حيثُ أنّه لا وجود لتنمية مستدامة بدون التنمية البشرية.

 

 الدكتور هشام بشير: مدير الشبكة العربية للتنمية المستدامة.

 


جميع الحقوق محفوظة
تصميم وتطوير شركة الحلول المتكاملة
ps-egypt.com