الإنسان ركيزة التنمية المستدامة وليس المال

 تطلعنا البيانات المالية العالمية، وخاصة التي ينتجها وينشرها البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، فصليا او سنويا، الحجم المخيف للديون المسجلة على جميع دول العالم، وخاصة الفقيرة منها، وتراكماتها لتزيد نسبة كثير منها على ما يقترب أو يفوق اجمالي نواتجها المحلية، مما أدى خلال عقود من الزمن إلى صعوبة الإيفاء بالالتزام في دفع أقساطها وفوائدها، ناهيك عن تسديدها كاملة، إلا استثناء. ففي تقرير البنك الدولي لسنة 2024 بلغت قيمة هذه الديون أكثر من 300 تريليون دولار أي أكثر من اجمالي الناتج المحلي العالمي. وللعلم فإن جميع الدول العربية مدينة ومنها النفطية الغنية، وتقدر مبالغ الدين وخاصة الخارجي بأكثر من تريليوني دولار، تمثل أكثر من ثلثي اجمالي انتاجها المحلي.

وتاريخيا، فإن عمليات التمويل بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واتسعت بنشأة الأمم المتحدة ومنظماتها، حيث سعت أكثرية دول العالم النامي، بعد استقلالها بتبني خطط لدخول مضمار التنمية الشاملة لتغيير الحالة البائسة التي تركت فيها من قبل مستعمريها، اجتماعيا واقتصاديا وعمرانيا وبنية تحتية، إما ببرامج تبناها سياسيوها للمقتدرة ماليا نوعا ما، أو في أكثرها بدعم من الأمم المتحدة عبر خطط خبرائها الدوليين. فمناهج هؤلاء، وفي مقدمتهم اقتصاديون، كانت منطلقة من مجتمعاتهم الغربية، فأتوا بقوالبهم لتطبيقها في أرض غير أرضهم في مقوماتها، وبشر غير بشرهم من حيث التكوين الاجتماعي والثقافي والقيمي، ومؤسسات ليست شبيهة بمؤسساتهم في شفافيتها وأدواتها، وفي دول اختلفت كذلك في أولويات أهدافها التنموية المرحلية.
فكان المخططون الاقتصاديون منهم يؤمنون ويصرون بأن المال هو العنصر الأهم في إحداث تغييرات في الوضع التنموي في هذه الدول، وأن ما تعانيه من تخلف يتمثل أساسا في الضعف المالي لها. والمال عند هؤلاء هو الذي يستطيع أن يحول التخلف الى تنمية، بزعمهم ان المال سيكسر دائرة الفقر المفرغة الكلية في جميع مجالات الحياة. وكانوا من بين المطالبين بعد الحرب العالمية الثانية بتمويل الدول الفقيرة واقراضهم لتبدأ فيها بوادر التنمية، وفعلاً تم تبني الفكرة.
ولكن بمرور الزمن وتقديم الأموال تلو الأموال، ومن مصادر متعددة، إلا ان التنمية لم تتحقق، بل يقول المنصفون من بينهم بأن معظم هذه الدول لم تحقق من التنمية إلا هوامشها ولم تصل الى شعوبها ولم يشعروا بلذتها، بل ازداد كثير منها فقرا وتخلفا وديونا متراكمة، كان من شأنها أن تقربهم إلى الاستعمار مرة أخرى بطريقة أو بأخرى، بفقدان جزء من سيادتها سواء من الدول المقرضة او من المؤسسات الدولية أو حتى الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات.
 لذا يقول التنمويون الاجتماعيون بأن المال أحد عوامل التغيير وليس الأوحد، ويرون بأن الانسان، وخاصة من هم في قمة المسؤولية في الدول إذا ما كانوا مؤهلين ومخلصين في أداء مهماتهم لصالح دولهم وشعوبهم، بتبنيهم لنظام مستقل يضع في اعتباره مصلحة الوطن بإدارة عاقلة ومسؤولة ومساءلة في نفس الوقت هو السبيل. والمال في النهاية في حكمه وسيلة وليس غاية بكل تأكيد، فبناء الانسان وتأهيله يعد في لغة المخططين الاجتماعيين أهم عناصر البناء وحسن استغلال المال في تكوينه وتأسيسه قبل أي عملية تنموية اقتصادية فيعد أهم مهمات الدول. فدائرة التخلف أو الفقر المفرغة لا يمكن كسرها إلا بوجود الإنسان المؤهل، فالإنسان هو هدف التنمية كما الأصل ولكنه أيضا وسيلتها.
إن الذين تبنوا الخطط التنموية الأوائل، وهم من الدول المتقدمة أرادوا بخططهم المستوردة التخطيط للتنمية في أرض ليست كأرضهم ولا أنظمة سياسية او اجتماعية أو ثقافية كما عاشوها، وفي نفس الشأن بين بشر غير جاهزين، فضاعت الأموال وضاعت الفرص وضاعت الجهود الدولية والمحلية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على حساب الشعوب في هذه الدول الذين ما زال في أغلبهم يعانون ويتمنون مغادرة أرضهم لفقدهم الأمل.
وخاتمة القول، إن كسر دائرة التخلف لا يمكنه ان يتحقق بالمال فقط كما يعتقد الاقتصاديون، بل بالإنسان المؤهل أولا، عن طريق بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية ذات الشفافية الكاملة بوضوح أبجدياتها بشأن التنمية الشاملة، والمدعومة بالقوانين والمراقبة من قبل جهات الاختصاص والتي يقتنع بها ويبنيها إنسان الأرض نفسها. فكم من دولة في العالم ومنها الصغيرة بموارد طبيعية محدودة ولكن اهتمت ببناء الانسان بمؤسساته استطاعت ردم فجوة التخلف كسنغافورة الصغيرة، وعلى العكس منها دول غزيرة الموارد وللأسف في عالمنا العربي، عجزت ان تستفيد من خيراتها، فهزمت وتراجعت عن الركب التنموي وحق انسانها بالعيش في أمن وسلام لا يتحقق إلا بالازدهار والتنمية الحقيقية الملموسة.


جميع الحقوق محفوظة
تصميم وتطوير شركة الحلول المتكاملة
ps-egypt.com