التنمية المستدامة وأهوال الليبرالية الجديدة |
![]() |
«التنمية المستدامة: ما حصاد تطبيقها كوكبيًا فى ١٠ سنوات» قبل الجائحة الفيروسية التى اجتاحت مواطنى الكوكب بعام، كُلفت من إحدى الجهات التنموية العربية بأن أعد «مدونة عربية للتنمية المستدامة» (صدرت فى ٢٠٢٠)؛ وذلك فى محاولة لإبداع اجتهاد عربى يعزز من قدرات الأطراف الفاعلة فى العملية التنموية: المواطنون، والمجتمع المدنى، والكيانات الاقتصادية، والدولة فى تحقيق إنجاز نوعى من أجل واقع أكثر عدلًا وإنصافًا وكرامة وازدهارًا لجميع المواطنين على اختلافهم. قمنا بهذا العمل (أنا وزميلتى الباحثة القديرة نادية رفعت) بمناسبة مرور خمسة أعوام على انطلاقة الدعوة الكوكبية إلى تبنى دول العالم ما بات يُعرف فى الأدبيات بـ«أجندة التنمية المستدامة»- تتكون من ١٧ هدفًا رئيسيًا، وما يقرب من ٢٠٠ هدف فرعى- والعمل بكد على تنفيذ ما تم التوافق عليه خلال الفترة من ٢٠١٦ حتى ٢٠٣٠.. والسؤال اليوم الذى بات يشغل بال الكثيرين: بعد مرور ثلثى الفترة المقررة لتنفيذ تلك الأجندة، ما هو حصاد سياسات وبرامج «التنمية المستدامة» بعد عقد من الزمان؟
«الطريق إلى التنمية المستدامة»
استلزم إنجاز المدونة رصد المسار التاريخى لتطور مفهوم التنمية- عمومًا- على مستوى الدول، والهيئات التنموية، والمؤسسات الدولية، والأطروحات الفكرية. كذلك تحولاته النوعية فى ضوء التطورات المتلاحقة فى سياق النظام الاقتصادى العالمى ومنظومة العلاقات الدولية وأثرهما- سلبًا وإيجابًا- على الممارسات التنموية الميدانية. ومن/ما الذى دفع إلى تبنى مفهوم «التنمية المستدامة»، وكيف ومتى؟ تبين أن الحصاد التنموى الكوكبى- بمقارباته الأيديولوجية المختلفة- لم يحقق الوعود المرجوة بمواطنى الكوكب. إذ انقضت أكثر من أربعة عقود (ما بين ثلاثينيات ومنتصف سبعينيات القرن الماضى) حتى انتبه العالم إلى أن التنويعات التنموية المختلفة يشوبها الكثير من الإشكاليات البنيوية. ومع مطلع السبعينيات من القرن الماضى «انكمش الاستثمار انكماشًا ملحوظًا فى الاقتصادات الغربية». وتأكد، قبل نهاية السبعينيات، أن الحصاد التنموى للعالم غير مُرضٍ. حيث تراوح بين التراجع فى المنظومة الرأسمالية عن (الكينزية) التى أنقذت الولايات المتحدة الأمريكية مما عُرف (بأزمة الكساد الكبير) (١٩٢٩)، لصالح رأسمالية السوق. كذلك شاب دولة الرفاه الأوروبية الكثير من الأعطاب سواء فى تجلياتها: الديمقراطية الاجتماعية (الحالة الاسكندنافية) أو المحافظة (الكوربوراتية) (الحالة الألمانية والفرنسية) أو الليبرالية فالنيوليبرالية (الحالة البريطانية). كما لم يحقق النموذج التنموى الاشتراكى ما كان مرجوًا منه. وأخيرًا فشل النموذج التنموى (الهجين) الذى مارسته دول العالم الثالث أو تحالف باندونج أو الجنوب والذى اتسم فى الأغلب برأسمالية الدولة. وعليه تنامت اللا مساواة بدرجة غير مسبوقة على مدى التاريخ الإنسانى فى الشمال الغنى أو بينه وبين الجنوب الفقير. ومن ثم خابت كل الآمال المعقودة لتأسيس نظام عالمى عادل بين الشمال والجنوب. وبين الفقراء والأغنياء. فى هذا الإطار، وفى سنة ١٩٨٠، أطلقت الأمم المتحدة وثيقة تاريخية تضمنت، ولأول مرة، مصطلح: التنمية المستدامة، نبهت فيه إلى الأزمة التنموية الدولية- متفاوتة الدرجات بين الشمال والجنوب- وتداعياتها الكارثية على الكوكب ومواطنيه المتمثلة فى: الفقر، والجوع، والتدهور البيئى والمناخى والصحى.. تلقف هذا المفهوم المستشار الألمانى الشهير (ويلى برانت)، (١٩١٣- ١٩٩٢، تولى المستشارية الألمانية فى الفترة من ١٩٦٩ إلى ١٩٧٤)، وترأس لجنة دولية عام ١٩٨٠ لدراسة (التنمية اللامتكافئة بين الشمال والجنوب: طبيعتها وأسبابها). حيث وجه صرخة إلى الدول الصناعية الكبرى لضرورة (إعادة تشكيل العلاقات التى تربط الشمال بالجنوب). حيث أصبح «التزامًا حاسمًا يتوقف عليه مصير الإنسانية.. لأن ما يضاهى الحرب خطرًا هو احتمال تفشى الفوضى نتيجة انتشار الجوع وحلول النكسات الاقتصادية وإصابة البيئة بالكوارث وتفشى الإرهاب».
«قصة التنمية المستدامة: فى البدء مستقبلنا المشترك»
نتج عن صرخة «برانت» التى ضمَّنها دراسته أن بدأ الاهتمام بالفقر كقضية كونية وربطها بالعديد من القضايا والإشكاليات. كما تم التمييز بين: «النمو والتنمية». وهى قضية لم يزل البعض يخلط بينهما حتى الآن.. وكان السؤال المحورى الذى بلور مفهوم التنمية المستدامة هو: «كيف نضمن تنمية حقيقية ودائمة وممتدة للمواطنين؟». تصدى للإجابة عن هذا السؤال اللجنة التى عُرفت باسم «لجنة بروندتلاند» (جو هارلم بروندتلاند سياسية نرويجية تقلدت موقع رئيسة وزراء النرويج من ١٩٨١ إلى ١٩٩٦ على فترات متقطعة، كما أصبحت رئيسة لمنظمة الصحة العالمية من ١٩٩٨ إلى ٢٠٠٣)، وهى اللجنة التى شكلتها الأمم المتحدة عام ١٩٨٣، من أجل إعادة النظر فى كل ما يتعلق بالشأنين التنموى والبيئى على كوكب الأرض. انطلقت اللجنة فى عملها من فكرة مفادها: أن الوقت قد حان للمزاوجة بين الاقتصاد وواقع الناس وبيئتهم التى انتُهكت من قبل الصراعات الجيوسياسية المختلفة لمعرفة لماذا تعثرت تنمية مواطنى الكوكب، وكما قاربت مقدرات الكوكب على النضوب. ومن ثم أنجزت اللجنة تقريرها المعروف باسم: «مستقبلنا المشترك» Our Common Future؛ والذى اشتُهر باسم «تقرير بروندتلاند للتنمية المستدامة»، وذلك عام ١٩٨٧، حيث تضمن فصلًا ضمن قسمه الأول بعنوان: «نحو تنمية مستدامة»، نستعرض مضمونه، كما نلقى الضوء على أثر السياسات النيوليبرالية العولمية على تطبيقه ميدانيًا، ودورها فى إعاقته خلال العقد الماضى، وذلك فى مقالنا القادم.. |
جميع الحقوق محفوظة |