الشبكة العربية للتنمية المستدامة نقلًا عن الأهرام: لم تتوقف مؤامرات استهداف مصر على امتداد تاريخها الحديث وأزعم أن الوعى الوطنى للمصريين كان رافعة إنجازات مصر بفضل ثوراتها؛ أقصد: ثورة المصريين لفرض محمد على واليا فى عام 1805 ضد إرادة السلطان العثماني، والثورة العرابية ضد التدخل الأوروبي، وثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، وثورة 23 يوليو، وأخيرا، ثورة 30 يونيو/ 3 يوليو بقيادة السيسي، التى أنهت اختطاف ثورة 25 يناير بواسطة جماعة الإخوان الإرهابية والعميلة وأسقطت حكمها.
وأركز هنا على تحديد أسباب إخفاق أهم محاولات إعادة بناء مصر على صورة التقدم الشامل والمستدام، وأبدأ بما كتبت من قبل أقول: إن مصر قد حققت فى تاريخها الحديث انجازات رائدة على طريق التنمية والتصنيع؛ سواء بمقاييس زمنها أو مقارنة بنقاط انطلاقها، وبينت أن أهم مشروعات إعادة بناء مصر قد أخفقت فى بلوغ غاياتها؛ سواء وفق المعايير العالمية فى عصرها أو مقارنة بالتطلعات الوطنية فى حينها. ولم تكن الإخفاقات نتيجة لاستهدافها من جانب القوى الاستعمارية وذيولها الإقليمية فقط؛ وإنما ترجع أيضا إلى فقدان القيادة والنخبة السياسية المصرية للاتجاه نحو هدف التنمية الشاملة والمستدامة ، وخاصة بناء الأسس الوطنية للتقدم الصناعى والتكنولوجى والعلمي، باعتباره ركيزة مواجهة استهداف مصر؛ ببساطة: لأن التقدم الشامل هو رافعة تعظيم القوة الشاملة، وتمتين الوحدة الوطنية ، و تعزيز الأمن القومى والإنساني، و حماية السلام ب الاستعداد للحرب ، وتعظيم الفرص وتقليص القيود، الخارجية والداخلية.
وأسجل أولا: أن مصر فى عهد محمد على شهدت إنجازا تاريخيا للنهضة الشاملة، وأقامت الصناعة الآلية الحديثة قبل غالبية البلدان الأكثر تصنيعا من مصر حاليا. ولا جدال أن سياسة الباب المفتوح، التى فرضها التدخل الأوروبي، كانت عاملا رئيسيا فى وأد هذا المشروع للنهضة الشاملة والتصنيع الحديث.
لكنه لا ينبغى تجاهل أن البيئة الداخلية والسياسة الخارجية قد حالت دون التطور الرأسمالى اللاحق فى الصناعة والزراعة، حيث حرمت سياسة احتكار الدولة الصناعات الحرفية الوطنية من فرص تحقيق التراكم الرأسمالي، وفضل رأس المال التجارى والربوى الأجنبى المهيمن الاستفادة من فرص الريع الأعلى والآمن للتجارة الخارجية والإقراض الربوى على المخاطرة وتحقيق ربح أقل بتمويل التصنيع وتحديث الزراعة.
ولم يقدم كبار ملاك الأرض الإقطاعيون على الاستثمار الصناعى للثروة النقدية التى تركزت لديهم من إنتاج وتصدير القطن، وفضلوا الإنفاق الاستهلاكى التبذيري. وساهم فى اخفاق مشروع محمد على سياسته الخارجية، حيث اصطدمت طموحاته الإمبراطورية بـالاطماع الأوروبية فى زمن تكوين الإمبراطوريات الاستعمارية، فكان تحطيم أسطوله وتقليص جيشه مقدمة لاحتلال مصر اللاحق، ودحر الثورة العرابية، ووأد مشروع الخديو إسماعيل للتحديث والاستقلال.
وثانيا: إن مصر- قبل غالبية البلدان الصناعية الجديدة والصاعدة حاليا- عرفت مبادرة رائدة للنهضة الشاملة والتصنيع الرأسمالى وطنى الركائز؛ وذلك فى سياق ما وفرته ثورة 1919 من زخم وطنى وما حققته من استقلال نسبى للسياسة الاقتصادية مكن من تعديلها بما استجاب وإن جزئيا وتدريجيا لمتطلبات التصنيع. وبفضل الدور التأسيسى لبنك مصر بقيادة طلعت حرب تمكنت الصناعة التحويلية المصرية من شغل موقع متقدم بين البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة والتابعة. ولا أنكر أن عاملا حاسما فى قطع الطريق على مشروع طلعت حرب كان سياسة الإدارة الاستعمارية البريطانية المناوئة لتصنيع مصر، وإملاءات البنك الأهلى المصري، الإنجليزى ملكية وإدارة، حيث اشترط مقابل دعم بنك مصر- لتجاوز أزمته عشية الحرب العالمية الثانية- وقف تأسيسه للصناعات وعزل طلعت حرب.
لكن الأوضاع الداخلية والسياسة الخارجية المصرية كانت للمرة الثانية العامل الحاسم فى وأد مشروع التصنيع الرأسمالى الوطني، حيث واصل تحالف القصر مع الاستعمار ضرب الحركة الوطنية والإطاحة بحكومات الوفد، وشارك تحالف كبار ملاك الأرض والرأسمالية الأجنبية المهيمنة والرأسمالية المصرية متضاربة المصالح فى المؤامرة ضد بنك مصر، وتكريس قيود تمويل تأسيس وتسويق إنتاج الصناعة الحديثة فى محيط شبه إقطاعى وفى ظل اقتصاد مستعمر.
وثالثا: أن مصر قد شهدت فى عهد عبدالناصر محاولة طموحة للتنمية الشاملة والتصنيع المستقل وضعت مصر مع كوريا الجنوبية وغيرها بين أكثر خمس دول تصنيعا فى مجموعة البلدان النامية. وتحقق هذا الإنجاز فى ظل قيادة الدولة والقطاع العام للتنمية والتصنيع وما أتاحه التعاون مع الاتحاد السوفيتى السابق من فرص فى ظروف الحرب الباردة.
وقد تعرضت سياسة التصنيع المستقل اشتراكية التوجه لحصار اقتصادى غربي، ووجه عدوان 1967 ضربة قاصمة للمشروع الناصري. لكنه، وللمرة الثالثة، كانت الأوضاع الداخلية والسياسة الخارجية المصرية عاملا حاسما فى وأد مشروع الارتقاء بتصنيع مصر. فقد حرم الاقتصاد المصرى من التراكم التاريخى لخبرة وقدرة الرأسمالية الوطنية بتأميم شركاتها؛ وتأخرت مصر عن التحول من إستراتيجية التصنيع فى اقتصاد حمائى إلى إستراتيجية التصنيع فى اقتصاد تنافسي، ودخل اقتصاد الأوامر مأزقا حادا بعد استنفاد قدرته على تعبئة وتنمية الموارد، ودفعت خيارات السياسة الخارجية إلى احتدام التناقض بين النظام الناصرى والمصالح الأمريكية، حتى وصل الصدام الى مدى تجاوز قدرات مصر على مجابهة تداعياته، وتخطى حدود قدرة ومصلحة الحليف السوفييتي، ووفر الذرائع لعدوان يونيو 1967. وبسبب التعلم السلبى للسادات، تراجع عن تصنيع مصر، وأضعف القطاع العام، فأهدر فرص إتاحتها مأثرة قيادته للحرب والسلام.
وأختم، فأقول إن استهداف مصر المعاصرة فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي- من الداخل ومن جميع الاتجاهات الإستراتيجية للدولة- لن يحقق غاياته؛ مادامت أن استجابة الأمة المصرية تعكس تعلما إيجابيا من تاريخها الحديث، سواء بتجنب ما ينصب لها من شراك حروب يمكن تجنبها مع تعزيز السلام ب الاستعداد للحرب إن فرضت، أو بالتوحد حول هدف التنمية الشاملة والمستدامة ورافعتها التصنيع، الذى لا ينبغى أن تحيد عنه.